الكمنجة المحرمة- لحن الحياة بين شغف لؤي وقيود الوطن

المؤلف: حمود أبو طالب08.12.2025
الكمنجة المحرمة- لحن الحياة بين شغف لؤي وقيود الوطن

في إحدى الأمسيات الطربية الساحرة، كان الفنان القدير محمد عبده يتحفنا بأداء مذهل، متنقلاً بسلاسة بين مختلف الألوان الموسيقية العربية، من شمالها إلى شرقها وغربها، وصولًا إلى جنوبها الحافل بالإيقاعات. وبينما كنت أستمع إلى إحدى أغانيه، لم يتمالك لساني نفسه، وهمست قائلاً: "ألا يبدو هذا اللحن وكأنه نسخة طبق الأصل من لحن فلان؟". فما كان من فنان العرب إلا أن دعاني للاقتراب منه، وهمس في أذني قائلاً: "أذنك متسخة".

ما قصده محمد عبده بتلك العبارة، على الأرجح، هو أنني أستمع إلى الكثير من الأغاني، فتتداخل في ذهني التداعيات اللحنية، ويتردد صدى الأوتار المتشابهة في أذني بشكل لا إرادي، مما يدفعني إلى إبداء رأيي بتسرع.

ولكن، ما الغاية من هذه المقدمة المطولة؟

حسنًا، يبدو أن الأذن بكل ما تحمله من تفاصيل دقيقة - الوسطى والخارجية والداخلية - قد انتقلت وراثيًا إلى طفل اسمه "لؤي"، وهو الآن طالب هندسة متفوق ومبدع في إحدى الجامعات الأمريكية. يتميز لؤي بشخصية رزينة وهادئة، ويحرص على الاحتفاظ بأشيائه الثمينة، وفي مقدمتها "الكمنجة" التي يعتبرها جزءًا لا يتجزأ من روحه.

ولكن لماذا الكمنجة تحديدًا؟

لؤي، بطبعه الرقيق، وشاعريته المرهفة، كان يشاهد الفنانين والأدباء وهم يتوافدون على منزلنا، ويستمع إلى إبداعاتهم بشغف. كان يتأمل آلاتهم الموسيقية بعيون لامعة، إلى أن استقر قراره على أن الكمنجة هي الأقرب إلى قلبه، والأكثر تعبيرًا عن مشاعره وأحاسيسه. وفي إحدى الأمسيات، استمع إلى الموسيقار عبده مزيد وهو يعزف على كمانه ببراعة فائقة، ويرتقي بالموسيقى إلى آفاق لا يبلغها الخيال. في تلك الليلة، قرر لؤي أن يصبح عازف كمان بارعًا، وأن يكرس حياته للموسيقى.

وفي مساء قريب من تلك الليلة، بينما كان الموسيقار القدير محمد المغيص ضيفًا في منزلنا، حدثته عن شغف لؤي بالكمنجة، وعن رغبته الجامحة في تعلم العزف عليها. فجأة، اختفى المغيص لبعض الوقت، ثم عاد وهو يحمل كمنجة عتيقة، تحمل بين طياتها آهات الزمن وذكريات الماضي. ثم قال بحنان: "يا لؤي، هذه الكمنجة عزف عليها طلال مداح، وهي هدية مني لك".

وهنا بدأت المشكلة الحقيقية: كيف سيتعلم لؤي العزف؟

العزف ممنوع في مجتمعه المحافظ.

والطرب يعتبر من المحرمات.

ولكن لؤي مصمم على أن يتوحد مع الكمنجة، وأن يعبر عن نفسه من خلال الموسيقى.

مرت سنوات طويلة.

وانتهى بي الأمر إلى نسيان أمر الكمنجة تمامًا.

ولكن، في ليلة شتوية باردة، بينما كنت أعبث بمحتويات غرفته، عثرت على الكمنجة القديمة.

كانت الكمنجة دافئة، وكأنها آهة مكتومة تحترق بالشوق والانتظار.

سألته بفضول: "لماذا ما زالت الكمنجة بحوزتك؟".

أجابني بحزن: "لأنني أريد أن أعزف لحن الحياة الجميلة، ولكنني أعلم أنهم لو سمعوني أعزف، فسوف يحطمون الكمنجة على رأسي. هنا، في الغربة، منحوني الحرية، بل أجبروني على أن أحافظ على أحلامي حية، وأن لا أدعها تنطفئ أبدًا".

ثم سألني بتردد: "أأعزف لك يا أبي؟".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة